فصل: باب دَفْعِ السِّوَاكِ إِلَى الأكْبَرِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب أَبْوَالِ الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَالدَّوَابِّ وَمَرَابِضِهَا

وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِى دَارِ الْبَرِيدِ، وَالسِّرْقِينِ، وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ‏:‏ هَاهُنَا، وَثَمَّ سَوَاءٌ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس أَن نَاسًا مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، قَدِموا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوُهَا، فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا‏.‏‏.‏‏.‏، الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَن النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى فِى مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ‏.‏

اختلف العلماء فى طهارة أبوال ما يؤكل لحمه‏:‏ فذهب عطاء، والنخعى، والزهرى، وابن سيرين، والحكم، والشعبى إلى أنها طاهرة، وهو قول مالك، والثورى، والليث، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعى، وأبو ثور‏:‏ الأبوال كلها نجسة‏.‏

وروى مثله عن ميمون بن مهران، والحسن، وحماد‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ وحجة أهل المقالة الأولى‏:‏ حديث أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها، فجعل ذلك بمنزلة اللبن، فلو كانت نجسة ما أباح لهم ذلك‏.‏

وقال أهل المقالة الثانية‏:‏ لا حجة لكم فى هذا الحديث، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أباح لهم شرب البول للمرض، لأنهم استوخموا المدينة، فأباحهم ذلك‏.‏

فعارضهم الأولون، فقالوا‏:‏ محال أن يأمرهم صلى الله عليه وسلم بشرب أبوالها وهى نجسة، لأن الأنجاس محرمة علينا، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الاستشفاء بالخمر، فقال‏:‏ تمت ذلك داء، وليس بشفاء-‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ ما كان الله ليجعل فيما حرم شفاء‏.‏

فثبت أن بول الإبل الذى جعله دواء، أنه طاهر غير محرم‏.‏

قاله الطحاوى‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ ومن جهة النظر أنا قد اتفقنا أن ريق ما يؤكل لحمه وعرقه طاهر، والمعنى فيه أنه مائع مستحيل من حيوان مأكول اللحم ليس بدم ولا قيح، فكذلك بوله‏.‏

وذهب ابن علية، وأهل الظاهر إلى أن بول كل حيوان، وإن كان لا يؤكل لحمه طاهر غير ابن آدم‏.‏

وروى مثله عن الشعبى، ورواية عن الحسن، وخالفهم سائر العلماء‏.‏

وقول البخارى فى الترجمة‏:‏ تمت باب أبوال الإبل والدواب-‏.‏

وافق فيه أهل الظاهر، وقاس أبوال ما لا يؤكل لحمه على أبوال الإبل ولذلك قال‏:‏ تمت وصلى أبو موسى فى دار البريد، والسرقين-، ليدل على طهارة أرواث الدواب وأبوالها، ولا حجة له فيه بينة، لأنه يمكن أن يصلى فى دار البريد على ثوب بَسطه فيه، أو فى مكان يابس لا تعلق به نجاسة منه‏.‏

وقد قال عامة الفقهاء‏:‏ إن من بسط على موضع نجس بُساطًا وصلى عليه أن صلاته جائزة‏.‏

ولو صلى على السرقين بغير بساط لكان مذهبًا له، ولم تجز مخالفة الجماعة به‏.‏

وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، إلى أن الأرواث كلها نجسة‏.‏

وقال مالك، والثورى، وزفر، والحسن بن حى‏:‏ ما أكل لحمه فروثه طاهر كبوله‏.‏

وقال الثورى فى خرو الدجاج‏:‏ ليس فيه إعادة وغسله أحسن‏.‏

تمت اجتووا المدينة- واجتويت البلاد، إذا كرهتها، وإن كانت مرافقة لك فى بدنك‏.‏

واستوبلتها، إذا لم توافقك فى بدنك وإن أحببتها‏.‏

و تمت سمل-، و تمت سمر- بمعنى واحد‏.‏

وقال صاحب الأفعال‏:‏ سمر العين‏:‏ فقأها‏.‏

والسِّرْقِين، والسرجين‏:‏ زبل الدواب‏.‏

باب مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِى السَّمْنِ وَالْمَاءِ

وَقَالَ الزُّهْرِىُّ‏:‏ لا بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ، أَوْ رِيحٌ، أَوْ لَوْنٌ‏.‏

وقال حَمَّادٌ‏:‏ لا بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ‏.‏

وقال الزُّهْرِىُّ فِى عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوَ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ‏:‏ أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا، وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لا يَرَوْنَ فيها بَأْسًا‏.‏

وقال ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ‏:‏ وَلا بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ‏.‏

- فيه‏:‏ مَيْمُونَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِى سَمْنٍ، فَقَالَ‏:‏ تمت أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ مِسْكِ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قول الزهرى‏:‏ لا بأس بالماء ما لم يغيره لون، أو طعم، أو ريح‏.‏

هو قول الحسن، والنخعى، والأوزاعى، ومذهب أهل المدينة، وهى رواية أبى مصعب، عن مالك‏.‏

وقد روى عنه ابن القاسم أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، وإن لم تطهر فيه، وهو قول الشافعى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا عند أصحاب مالك على سبيل الاستحسان والكراهية لعين النجاسة، وإن قلّت، وهذا القول يستنبط من حديث الفأرة تموت فى السمن، لأنه صلى الله عليه وسلم منع من أكل السمن لما خشى أن يكون يسرى شىء من الميتة المحرمة، وإن لم يتغير لون السمن، أو ريحه، أو طعمه بموت الفأرة فيه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأما رواية أبى مصعب عن مالك الذى هو مذهب أهل المدينة، فإنه يستنبط من حديث الدم، ووجه الدلالة منه أنه لما انتقل حكم الدم بطيب الرائحة من النجاسة إلى الطهارة حين حكم له فى الآخرة بحكم المسك الطاهر، وجب أن ينتقل الماء الطاهر بخبيث الرائحة إذا حلت فيه نجاسة من حكم الطهارة إلى النجاسة‏.‏

وإنما ذكر البخارى حديث الدم فى باب نجاسة الماء، لأنه لم يجد حديثًا صحيح السند فى الماء، فاستدل على حكم الماء المائع بحكم الدم المائع، إذْ ذلك المعنى الجامع بينهما‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ لما حكم للدم من النجاسة إلى حكم الطهارة بطيب رائحته، وحكم له فى الآخرة بحكم المسك الطاهر، إذ لا يوصف فيها بطيب الرائحة شىء نجس، وجب أن يحكم للماء إذا تغير ريحه، أو لونه، أو طعمه بنجس حل فيه بحكم النجاسة لانتقاله من الطهارة إلى النجاسة، وخروجه عن حكم الماء الذى أباح الله به الطهارة، وهو الماء الذى لا يخالطه شىء يغيره عن صفته‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إنه لما حكم للدم بالطهارة بتغير ريحه إلى الطيب وبقى فيه اللون، والطعم، ولم يذكر تغيرهما إلى الطيب، وجب أن يكون الماء إذا تغير منه وصفان بالنجاسة، وبقى وصف واحد طاهر وجب أن يكون طاهرًا يجوز الوضوء به‏.‏

قيل‏:‏ ليس كما توهمت، لأن ريح المسك حكم للدم بالطهارة، فكان اللون، والطعم تبعًا للطاهر، وهو الريح الذى انقلب ريح مسك، فكذلك الماء إذا تغير منه وصف واحد بنجاسة حلت فيه، كان الوصفان الباقيان تبعًا للنجاسة، وكان الماء بذلك خارجًا عن حد الطهارة لخروجه عن صفة الماء الذى جعله الله طهورًا، وهو الماء الذى لا يخالطه شىء‏.‏

وأما ريش الميتة وعظام الفيل ونحوه فهو طاهر عند أبى حنيفة، نجس عند مالك والشافعى، لا يدهن فيها، ولا يمتشط، إلا أن مالكًا قال‏:‏ إذا ذكى الفيل فعظمه طاهر، والشافعى يقول‏:‏ إن الذكاة لا تعمل فى السباع‏.‏

وقال الليث، وابن وهب‏:‏ إن غلى العظم فى ماءٍ سخن فطبخ جاز الإدهان به، والامتشاط‏.‏

ورخص عروة فى بيع العاج‏.‏

وقال ابن المواز‏:‏ ونهى مالك عن الانتفاع بعظم الميتة والفيل والإدهان به، ولم يطلق تحريمها، لأن عروة، وابن شهاب، وربيعة أجازوا الامتشاط فيها‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وأجاز الليث، وابن الماجشون، ومطرف، وابن وهب، وأصبغ الامتشاط بها والإدهان، فأما بيعها فلم يرخص فيه إلا ابن وهب، قال‏:‏ إذا غليت جاز بيعها، وجعلت كالدباغ لجلد الميتة يدبغ أنه يباع‏.‏

وقال مالك، وأبو حنيفة‏:‏ إن ذكى الفيل فعظمه طاهر‏.‏

والشافعى يقول‏:‏ إن الذكاة لا تعمل فى السباع، ومن أجاز تجارة العاج فهو عنده طاهر‏.‏

وأما ريش الميتة، فطاهر عند أبى حنيفة فى عظام الفيل، بناءً على أصله، أن لا روح فيها، وعند مالك والشافعى نجسة‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ لا خير فى ريش الميتة، لأنه له سنخ إلا ما لا سنخ له مثل الزغب وشبهه، فلا بأس به إذا غُسل‏.‏

باب لاَ يَبُول فِى الْمَاءِ الدَّائِمِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ‏.‏

- وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ‏:‏ تمت لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِى الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِى لا يَجْرِى، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ‏.‏

قال المهلب وغيره‏:‏ النهى عن البول فى الماء الدائم مردود إلى الأصول، فإن كان الماء كثيرًا فالنهى عن ذلك على وجه التنزه لأن الماء على الطهارة حتى يتغير أحد أوصافه، فإن كان الماء قليلاً فالنهى عن ذلك على الوجوب، لفساد الماء بالنجاسة المغيرة له‏.‏

ولم يأخذ أحد من الفقهاء بظاهر هذا الحديث إلا رجل جاهل نسب إلى العلم وليس من أهله، اسمه داود بن على، فقال‏:‏ من بال فى الماء الدائم فقد حرم عليه الوضوء به، قليلاً كان الماء أو كثيرًا، فإن بال فى إناء وصبه فى الماء الدائم جاز له الوضوء به، لأنه إنما نهى عن البول فقط بزعمه، وصبه للبول من الإناء ليس ببول فلم ينه عنه، قال‏:‏ ولو بال خارجًا من الماء الدائم فسال فيه جاز له أن يتوضأ به، قال‏:‏ ويجوز لغير البائل أن يتوضأ فيما بال فيه غيره، لأن النبى إنما نهى البائل ولم ينه غيره، وقال ما هو أشنع من هذا‏:‏ أنه إذا تغوط فى الماء الدائم كان له ولغير أن يتوضأ منه، لأنه إنما ورد فى البول فقط، ولم ينه عن الغائط‏.‏

وهذا غاية فى السقوط وإبطال المعقول، ومن حمله طرد أصله فى إنكار القياس إلى التزام مثل هذا النظر، فلا يشك فى عناده وقلة ورعه، نعوذ بالله من الخذلان، وقد فطر الله العقول السليمة على منافرة قوله هذا ومضادته‏.‏

وإنما أتى الرجل من جهله بالأسباب التى خرج عليها معنى الخطاب، والنبى صلى الله عليه وسلم قد جمع فى هذا الخبر معانى‏:‏ أحدها‏:‏ تحريم الوضوء بالماء النجس‏.‏

والآخر‏:‏ تأديبهم بأن يتنزهوا عن البول فى الماء الذى لا يجرى فيحتاجون إلى الوضوء منه، وهم على يقين من استقرار البول فيه، لأن من سنته صلى الله عليه وسلم النظافة وحسن الأدب، فدعا الناس إلى ذلك‏.‏

والآخر‏:‏ أنه زجرهم عن ذلك، إذ لو أطاق لهم البول فى الماء الدائم لأوشك أن يفسد الماء القيل ويتغير فيضيق وجود ماء طاهر على كثير من الناس‏.‏

فيقال له‏:‏ خبرنا عن البائل فى البحر أو الحوض الكبير أو الغدير الواسع الذى لا يتحرك بتحرك طرفه، هل يجوز أن يتوضأ منه‏؟‏ فإن قال‏:‏ لا، قال‏:‏ ما تعرف أن الحق فى خلافه‏؟‏ وإن أجاز ذلك قيل له‏:‏ فقد تركت ظاهر الحديث، وفى ضرورتك إلى تركك ظاهره ما يوجب عليك أن تقول، إن معنى الحديث ما ذكرنا، قاله بعض أصحاب أبى حنيفة‏.‏

وأما إدخال البخارى فى أول الحديث‏:‏ تمت نحن الآخرون السابقون يوم القيامة- فيمكن، والله أعلم، سمع أبو هريرة ذلك من النبى فى نسق واحد فحدث بهما جميعًا كما سمعهما‏.‏

وقد ذكر مثل ذلك فى كتاب الجهاد، وفى كتاب العبارة، وفى كتاب الأيمان والنذور، وفى كتاب قصص الأنبياء، وفى كتاب الاعتصام، ذكر فى أوائل الأحاديث كلها‏:‏ تمت نحن الآخرون السابقون يوم القيامة-، ويمكن أن يكون همام سمع ذلك، لأنع سمع من أبى هريرة أحاديث ليست بكثيرة، وفى أوائلها‏:‏ تمت نحن الآخرون السابقون-، فذكرها على الرتبة سمعها من أبى هريرة، والله أعلم‏.‏

وقد روى مالك فى موطئه مثل هذا فى موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ قول عبد الكريم بن أبى المخارق‏:‏ وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى‏:‏ تمت إذا لم تستحى فاصنع ما شئت، ووضع اليد اليمنى على اليسرى فى الصلاة-، فحدث بهما جميعًا كما سمعهما‏.‏

وفى الموضع الثانى‏:‏ قول أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت بينما رجل يمشى بطريق إذ وجد غصن شوك فأخذه فشكر الله له، فغفر له-‏.‏

قال‏:‏ تمت الشهداء خمسة‏:‏ المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد فى سبيل الله-‏.‏

ورواه جماعة، عن مالك، فزاد فيه‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ تمت لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما فى التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا-‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت بينما رجل يمشى بطريق وجد غصن شوك- إلى آخر الحديث، فى ذكر الشهداء، وهى ثلاثة أحاديث فى حديث واحد‏.‏

باب إِذَا أُلْقِىَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّى قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ صَلاتُهُ

قَالَ‏:‏ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا، وَهُوَ يُصَلِّى، وَضَعَهُ، وَمَضَى فِي صَلاتِهِ‏.‏

وقال ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ‏:‏ إِذَا صَلَّى، وَفِى ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ، أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، أَوْ تَيَمَّمَ وصَلَّى، ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ لا يُعِيدُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض‏:‏ أَيُّكُمْ يَجِىءُ بِسَلا جَزُورِ بَنِى فُلانٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لا أُغْنِى شَيْئًا، لَوْ كَانَتْ لِى مَنَعَةٌ، فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ تمت اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ- ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ‏.‏

فذكر الحديث إلى قوله‏:‏ فَلَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَرْعَى فِى قَلِيبِ بَدْرٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما جعل السلا جيفة، لأنهم لم يكونوا أهل كتابن فتكون ذبائحهم طاهرة، وإنما كانوا مشركين لا كتاب لهم يذبحون به، فكانت ذبائحهم ميتة‏.‏

وأيضًا لو كان السَّلا من ذبائح المسلمين لكان نجسًا، لكثرة الدم فيه، ذكره مبينًا فى كتاب الصلاة، فقال‏:‏ تمت أيكم يقوم إلى سلا جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها‏؟‏ فانبعث أشقى القوم- وذكر الحديث‏.‏

ومعلوم أنهم كانوا مجوسًا لا كتاب لهم، ففيه من الفقه‏:‏ أن غسل النجاسات فى الصلاة سنة على ما قاله مالك والأوزاعى وجماعة من التابعين‏.‏

وقد ذكر البخارى بعضهم فى أول هذا الباب، ولو كانت فرضًا ما تمادى النبى صلى الله عليه وسلم، فى صلاته والفرس والدم على ظهره، ولقطع الصلاة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن هذه الصلاة كانت فى أول الإسلام، ويحتمل أن تكون قبل أن تفرض عليه الصلاة، وتكون نافلة فلم يحتج إلى إعادتها‏.‏

قيل‏:‏ لا نعلم ما كانت، ولو كانت نافلة لكان سبيلها سبيل الفرائض، وأى وقت كانت هذه الصلاة، فلا شك أنها كانت بعد نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 4‏]‏ لأن هذه الآية أول ما نزل عليه من القرآن قبل كل صلاة فريضة أو نافلة، وتأولها جمهور السلف أنها فى غير الثياب، وأن المراد بها طهارة القلب ونزاهة النفس عن الدناءة والآثام‏.‏

وقالوا‏:‏ وقول ابن سيرين أنه أراد بذلك الثياب شذوذ ولم يقله غيره‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه‏:‏ أن من صلى بثوب نجس وأمكنه طرحه فى الصلاة أنه يتمادى فى صلاته ولا يقطعها، على ما قاله الكوفيون، وهى رواية ابن وهب، عن مالك‏.‏

وسأذكر اختلاف قول مالك وأصحابه فى هذه المسألة، فى كتاب الصلاة، فى باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى، إن شاء الله‏.‏

وقد روى عن أبى مجلز أنه سئل عن الدم يكون فى الثوب، فقال‏:‏ إذا كبرت ودخلت فى الصلاة ولم تر شيئًا ثم رأيته بعد فأتم الصلاة، وعن أبى جعفر مثله‏.‏

واختلفوا فيمن صلى بثوب نجس ثم علم به بعد الصلاة‏.‏

فقال ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، وابن المسيب، وسالم، والشعبى، والنخعى، ومجاهد، وطاوس، والزهرى‏:‏ لا إعادة عليه، وهو قول الأوزاعى، وإسحاق، وأبى ثور‏.‏

وقال ربيعة ومالك‏:‏ يعيد فى الوقت‏.‏

وقال الشافعى وأحمد‏:‏ يعيد أبدًا‏.‏

وأما من تعمد الصلاة بالنجاسة فإنه يعيد أبدًا عند مالك وكثير من العلماء، لاستخفافه بالصلاة إلا أشهب فقال‏:‏ لا يعيد المتعمد إلا فى الوقت فقط‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن من أوذى فله أن يدعو على من آذاه، كما دعا النبى صلى الله عليه وسلم على كفار قريش‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا إذا كان الذى آذاه كافرًا، فإن كان مسلمًا فالأحسن ألا يدعو عليه، لقول النبى لعائشة حين دعت على السارق‏:‏ تمت لاتسبخى عنه بدعائك عليه-‏.‏

ومعنى لا تسبخى عنه أى‏:‏ لا تخففى عنه‏.‏

والتسبيخ‏:‏ التخفيف، عن صاحب تمت العين-‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وفيه بركة دعوة النبى صلى الله عليه وسلم وأنها أجيبت فيمن دعا عليه‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ السلا‏:‏ الجلدة التى يكون فيها الولد‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ وهى المشيمة‏.‏

وقوله‏:‏ تمت لو كانت لي منعة- يريد قوة أمتنع بها‏.‏

قال صاحب تمت العين- يقال‏:‏ رجل منيع فى عز ومنعة، وقد منع مناعة ومنعًا‏.‏

وقوله‏:‏ تمت ويحيل بعضهم على بعض- يعنى ينسب ذلك بعضهم إلى بعض من قولك‏:‏ أحلت الغريم إذا جعلت له أن يتقاضى ماله عليك من غيرك، ويحتمل أن يكون من قول العرب‏:‏ حال الرجل على ظهر الدابة حولا، وأحال‏:‏ وثب‏.‏

وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم لما صبح أهل خيبر غدوة فرآه أهلها، أحالوا إلى الحصن أى وثبوا إليه‏.‏

و تمت القليب- البئر قبل أن تطوى‏.‏

وإنما سميت بدر بدرًا، ببدر بن قريش بن الحارث بن مخلد بن النضر بن كنانة، وهو الذى احتفرها، فنسبت إليه عن الخشنى‏.‏

باب البصاق وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ

قَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ‏:‏ خَرَجَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةَ‏.‏

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏.‏

وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ أنس قال‏:‏ بصق النبى صلى الله عليه وسلم فى ثوبه‏.‏

هذا الباب يدل على أن البزاق والمخاط طاهر، وهو أمر مجمع عليه لا أعلم فيه اختلافًا، إلا ما روى عن سليمان الفارسى صاحب رسول الله أنه جعله غير طاهر، وأن الحسن بن حى كرهه فى الثوب وذكر الطحاوى، عن الأوزاعى أنه كره أن يدخل سواكه فى وضوئه‏.‏

وما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم من خلافهم هى السنة المتبعة والحجة البالغة، فلا معنى لقولهم وقد أمر النبى المصلى أن يبزق عن يساره أو تحت قدمه، ويبزق صلى الله عليه وسلم فى طرف ردائه، ثم رد بعضه على بعض وقال‏:‏ تمت أو تفعل هكذا-‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وهذا حجة فى طهارته، لأنه لا يجوز أن يقوم المصلى على نجاسة، ولا أن يصلى وفى ثوبه نجاسة‏.‏

باب لا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلا الْمُسْكِرِ

وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ‏.‏

وقال عَطَاءٌ‏:‏ التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ-‏.‏

اختلف العلماء فى الوضوء بالنبيذ‏.‏

فقال مالك وأبو يوسف والشافعى وأحمد‏:‏ لا يجوز الوضوء بالنبيذ، نَيِّهِ ومطبوُخِهِ، مع عدم الماء ووجوده، تمرًا كان أو غيره، فإن كان مع ذلك مشتدًا فهو نجس لا يجوز شربه ولا الوضوء به‏.‏

وأجاز الحسن الوضوء بالنبيذ‏.‏

قال الأوزاعى‏:‏ يجوز الوضوء بسائر الأنبذة، وروى هذا عن على‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ لايجوز الوضوء به مع وجود الماء، فإذا عدم فيجوز بمطبوخ التمر خاصة إذا أسكر، فاما النيئ والنقيع فلا يجوز الوضوء به‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ يتوضأ به ثم يتيمم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج الذين أجازوا الوضوء بالنبيذ بما رواه ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعانى، عن ابن عباس، أن ابن مسعود خرج ليلة الجن مع رسول الله، فسأله رسول الله‏:‏ تمت أمعك ماء‏؟‏- قال‏:‏ معى نبيذ فى إداوتى، فقال رسول الله‏:‏ تمت أصبب علىَّ- فتوضأ به، وقال‏:‏ تمت شراب وطهور-‏.‏

وبما رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد بن جدعان، عن أبى رافع مولى ابن عمر، عن ابن مسعود، أنه كان مع رسول الله ليلة الجن، وأنه احتاج صلى الله عليه وسلم إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلا النبيذ، فقال‏:‏ تمت تمرة طيبة وماء طهور- وتوضأ به‏.‏

واحتج عليهم مخالفوهم بأن هذه الآثار لا تثبتن ولا تقوم بها حجة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد روى عن ابن مسعود من الطرق الثابته أنه لم يشهد ليلة الجن مع النبى، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا يحيى بن زكريان حدثنا ابن ابى زائدة، حدثنا داود بن أبى هند، عن عامر، عن علقمة، قال‏:‏ سألت ابن مسعود هل كان مع النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الجن أحد‏؟‏ فقال‏:‏ لم يصحبه من أحد، ولكن فقدناه تلك الليلة، فقلنا استطير أو اغتيل، فتفرقنا فى الشعاب والأودية نلتمسه، فقال‏:‏ تمت إنى أتانى داعى الجن فذهبت أقرئهم القرآن- فارانا آثارهم‏.‏

وهذا الإسناد أصح من آثارهم‏.‏

وأما من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب ولا الخل، وكان النظر على ذلك أن يكون نبيذ التمر كذلك‏.‏

وأجمع العلماء أن نبيذ التمر إذا كان موجودًا مع الماء أنه لا يتوضأ به، لأنه ليس بماء، فلما كان خارجًا من حكم المياه فى حال وجود الماء كان خارجًا من حكم المياه فى حال عدم الماء‏.‏

ووجه احتجاج البخارى رحمه الله فى هذا الباب بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت كل شراب أسكر فهو حرام- هو أنه إذا أسكر الشراب فقد وجب اجتنابه لنجاسته، وحرم استعماله فى كل حال، ولم يحل شربه، وما لم يحل شربه لا يجوز الوضوء به، لخروجه عن اسم الماء فى اللغة والشريعة، وكذلك النبيذ غير المسكر أيضًا فهو فى معنى المسكر من جهة أنه لا يقع عليه اسم الماء، ولو جاز أن يسمى النبيذ ماء لأن فيه ماء، جاز أن يسمى الخل ماء، لأن فيه ماء‏.‏

وهذا أبو عبيد وهو إمام فى اللغة يقول‏:‏ النبيذ لا يكون طهورًا أبدًا لأن الله شرط الطهور بشرطين ولم يجعل لهما ثالثًا وهما‏:‏ الماء، والصعيد، والنبيذ ليس بواحد منهما‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وما رواه عن على فليس بثابت عنه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ولو صح خبرهم لكان منسوخًا، لأن ليلة الجن كانت بمكة فى صدر الإسلام، وقوله‏:‏ ‏(‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43، المائدة‏:‏ 6‏]‏ نزلت فى غزوة المريسيع، حيث فقدت عائشة عقدها بالمدينة‏.‏

باب غَسْلِ الْمَرْأَةِ أَبَاهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ امْسَحُوا عَلَى رِجْلِى فَإِنَّهَا مَرِيضَةٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ سئل بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِىَ جُرْحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى كَانَ عَلِىٌّ يَجِىءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ مَاءٌ، وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَأُحْرِقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ‏.‏

فيه‏:‏ غسل الدم من الجسد، وهو إجماع‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه دليل على جواز مباشرة المرأة أباها وذوى محارمها، وإلطافها إياهم، ومداواة أمراضهم‏.‏

ولذلك قال أبو العالية لأهله‏:‏ امسحوا على رجلى، فإنها مريضة ولم يخص بعضهم دون بعض بل عمهم جميعًا‏.‏

وفيه‏:‏ إباحة التداوى، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد داوى جرحه بالحصير المحرق‏.‏

باب السِّوَاكِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ بِتُّ عِنْدَ خالتى ميمونة فَاسْتَنَّ رسول الله - فيه‏:‏ أبو موسى، قَالَ‏:‏ أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ، يَقُولُ‏:‏ تمت أُعْ أُعْ- وَالسِّوَاكُ فِي يده، كَأَنَّه يَتَهَوَّعُ‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ‏.‏

فيه‏:‏ أن السواك سنة مؤكدة لمواظبته عليه بالليل، والليل لا يناجى فيه أحد من الناس، وإنما ذلك لمناجاة الملائكة، وتلاوته القرآن‏.‏

وقد جاء فى الحديث تمت طيبوا طرق القرآن- يعنى بالسواك‏.‏

وقد روى مالك‏:‏ عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ تمت لولا أن أشق على امتى لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء-‏.‏

وعن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، أنه قال‏:‏ تمت لولا أن يشق على أمته، لأمرهم بالسواك مع كل وضوء-‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ما زال رسول الله يأمرنا بالسواك حتى ظننت أنه سينزل عليه فيه‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أول ما يبدأ بالسواك‏.‏

وقال‏:‏ تمت السواك مطهرة للفم مرضاة للرب-‏.‏

والعلماء كلهم يندبون إليه، وليس بواجب عندهم، ولو كان واجبًا عليهم لأمرهم به، يشق عليهم أو لم يشق‏.‏

وقوله‏:‏ تمت يشوص فاه-‏.‏

قال ابن دريد الشوص‏:‏ الاستياك من سفل إلى علو، وبه سمى هذا الداء الشوصة، لأنه ريح يرفع القلب عن موضعه‏.‏

باب دَفْعِ السِّوَاكِ إِلَى الأكْبَرِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ تمت أَرَانِى أَتَسَوَّكُ، بِسِوَاكٍ فَجَاءَنِي رَجُلانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِى‏:‏ كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأكْبَرِ مِنْهُمَا-‏.‏

فيه‏:‏ تقديم ذى السن فى السواك، وكذلك ينبغى تقديم ذى السن فى الطعام والشراب والكلام والمشى والكتاب وكل منزلة قياسًا على السواك واستدلالا من قوله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة‏:‏ تمت كبر كبر- يريد ليتكلم الأكبر، وهذا من باب أدب الإسلام‏.‏

وقال المهلب‏:‏ تقديم ذى السن أولى فى كل شى ما لم يترتب القوم فى الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن من الرئيس أو العالم، على ما جاء فى حديث شرب اللبن‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ بَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ

- قَالَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ-، قَالَ‏:‏ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا بَلَغْتُ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ‏:‏ وَرَسُولِكَ، قَالَ‏:‏ تمت لا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ-‏.‏

فيه‏:‏ أن الوضوء عند النوم مندوب إليه مرغب فيهن وكذلك الدعاء، لأنه قد تقبض روحه فى نومه، فيكون قد ختم عمله بالوضوء والدعاء الذى هو أفضل الأعمال، ولذلك كان ابن عمر يجعل آخر عمله الوضوء والدعاء، فإذا تكلم بعد ذلك استأنف الصلاة والدعاء، ثم ينام على ذلك اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ تمت اجعلهن آخر ما تتكلم به-‏.‏

وقوله‏:‏ تمت ونبيك الذى أرسلت-‏.‏

حجة لمن قال‏:‏ إنه لا يجوز نقل حديث النبى صلى الله عليه وسلم، على المعنى دون اللفظ، وهو قول ابن سيرين، ومالك وجماعة من أصحاب الحديث‏.‏

وقال المهلب‏:‏ إنما لم تبدل ألفاظه صلى الله عليه وسلم، لأنها ينابيع الحكمة، وجوامع الكلام، فلو جوز أن يعبر عن كلامه بكلام غيره سقطت فائدة النهاية فى البلاغة التى أعطيها صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ لم يرد النبى برده على البراء تحرى قوله فقط وإنما أراد بذلك ما فى قوله‏:‏ تمت ونبيك الذى أرسلت- من المعنى الذى ليس فى قوله‏:‏ تمت ورسولك الذى أرسلت- وذلك أنه إذا قال‏:‏ ورسولك الذى أرسلت يدخل فيه جبريل وغيره من الملائكة الذين هم رسل الله إلى أنبيائه وليسوا بأنبياء، كما قال تعالى فى كتابه‏:‏ ‏(‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 75‏]‏ فأراد بقوله‏:‏ تمت ونبيك الذى أرسلت- تلخيص الكلام من اللبس أنه المراد صلى الله عليه وسلم بالتصديق بنبوته بعد التصديق بكتابه الذى أوحى الله تعالى إليه وأمرهم بالإيمان به، وإن كان غيره من رسل الله أيضًا واجب الإيمان بهم، وهذه شهادة الإخلاص والتوحيد الذى من مات عليها دخل الجنة، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت فإن مت مت على الفطرة- يعنى فطرة الإيمان‏.‏

كمل كتاب الوضوء بحمد الله وعونه‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم عونك اللهم

كِتَاب الْغُسْل

باب الغسل

وَقَوله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏

اختلف العلماء فى صفة الغسل الذى عنى الله فى هاتين الآيتين، فقالت طائفة‏:‏ يجزئ الجنب الانغماس فى الماء دون إمرار اليد على جسده، هذا قول الحسن، وعطاء، وسالم، والنخعى، والشعبى، والزهرى، وبه قال الثورى، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن عبد الحكم، وأبو الفرج المكى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يجزئه حتى يمر يديه على جسده، هذا قول القاسم، وأبى العالية، وميمون بن مهران، وإليه ذهب مالك، والمزنى‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا‏:‏ إن كل من صب عليه الماء، فقد اغتسل، تقول العرب‏:‏ غسلتنى السماء، ولا مدخل فيه لإمرار اليد، وقد وصفت عائشة وميمونة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة، ولم تذكرا تدلكًا‏.‏

واحتج المزنى لصحة قول من أوجب التدلك، فقال‏:‏ إن الله تعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ولم يكن بد للمتوضئ من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه، فى حكم وجه المتوضئ ويديه وهذا لازم‏.‏

قال غيره‏:‏ ألا تراهم أجمعوا أن الوضوء للصلاة لا يجزئ فيه إلا إمرار اليد، وأجمعوا أن الوضوء فى الغسل من الجنابة ليس بفرض‏؟‏ وإذا كان ذلك، فإن المغتسل من الجنابة الذى لا يقول بإمرار اليد إذًا لم يتوضأ لاغتساله، فقد أوجب وضوءًا للصلاة دون إمرار اليد، وهو لا يقول بذلك فنقض قوله‏.‏

باب الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ

- فيه عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِى الْمَاءِ، فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ الشَعْرِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثَ غُرَفٍ بِيَده، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ‏:‏ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ صفة غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ العلماء مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك، ويحتمل أن يكون قدّم الوضوء قبل الغسل، لفضل أعضاء الوضوء، أو لغير ذلك، وأما الوضوء بعد الغسل، فلا وجه له عند العلماء‏.‏

وروى نافع، عن ابن عمر، أنه سئل عن الوضوء بعد الغسل، فقال‏:‏ وأى وضوء أعم من الغسل‏.‏

وقد ذكر ابن أبى شيبة، قال‏:‏ حدثنا معمر بن سليمان، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن أبى البخترى، أن عليًا كان يتوضأ بعد الغسل‏.‏

وروى الزهرى، عن سالم، قال‏:‏ كان أبى يغتسل، ثم يتوضأ، فأقول أما يجزئك الغسل‏؟‏ فقال‏:‏ وأى وضوء أتم من الغسل للجنب، ولكنى يخيل إلىَّ أنه يخرج من ذكرى شىء فأمسه فأتوضأ لذلك‏.‏

وأما حديث علىّ فهو مرسل، لأن يحيى بن معين، قال‏:‏ أبو البخترى الطائى اسمه سعيد ابن عبيد ثقة، ولم يسمع من على بن أبى طالب، ولو ثبت عن علىّ لكان إنما فعله لانتقاض وضوئه، أو شكَّ فيه كما قال ابن عمر، وروى أبو إسحاق السبيعى، عن أبى الأسود بن يزيد، عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة‏.‏

باب غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِه

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ‏:‏ الْفَرَقُ‏.‏

فيه‏:‏ دليل على جواز الغسل والوضوء بفضل الجنب والحائض‏.‏

وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة، وحجة كل فريق فى باب وضوء الرجل مع امرأته، فأغنى عن إعادته، وذكر ابن أبى شيبة، عن أبى هريرة أنه كان ينهى أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد‏.‏

وأظنه غاب عنه هذا الحديث، والحجة فى السنة لا فيما خالفها‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ الفَرَق بفتح الراء‏.‏

وقال ابن يزيد الأنصارى‏:‏ الفرق بفتح الراء وإسكانها‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً، فكان لكل واحد منهما ثمانية أرطال، وقال أبو داود‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل يقول‏:‏ الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً‏.‏

وقال ابن مدين، عن عيسى بن دينار، قال ابن القاسم، وسفيان بن عيينة‏:‏ الفرق ثلاثة أصوع، وإذا كان الفرق ثلاثة أصوع كما قال الأئمة، نصفه صاع ونصف، وذلك ثمانية أرطال فالصاع ثلثها، وهو خمسة أرطال وثلث، كما ذهب إليه أهل المدينة‏.‏

باب الْغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَلَمَةَ، أنه دَخَل عَلَى عَائِشَةَ مَعَ أَخِيهَا، فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَنْ غُسْلِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْو مِنْ الصَّاع، فَاغْتَسَلَتْ، وَأَفَاضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ‏:‏ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر أنه سُئل عَنِ الْغُسْلِ، فَقَالَ‏:‏ يَكْفِيكَ صَاعٌ‏.‏

فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ مَا يَكْفِينِى، قَالَ جَابِرٌ‏:‏ قَدْ كَانَ يَكْفِى مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا، وَخَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ أَمَّنَا فِى ثَوْبٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنُ عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ‏.‏

اختلف أهل الحجاز، وأهل العراق فى مقدار الصاع الذى كان يغتسل به النبى صلى الله عليه وسلم فذهب أهل الحجاز إلى أنه خمسة أرطال وثلث، وذهب أهل العراق إلى أن وزنه ثمانية أرطال، واحتجوا بما رواه موسى بن الجهم الجهمى، عن مجاهد، قال‏:‏ دخلنا على عائشة واستسقى بعضنا، فأتى بعس، فقالت عائشة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل مثل هذا‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فحزرته ثمانية أرطال، تسعة أرطال، عشرة أرطال‏.‏

واحتج أهل المدينة بحديث عائشة المتقدم فى الباب قبل هذا قالت‏:‏ كنت أغتسل أنا والنبى صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال له‏:‏ الفرق‏.‏

وقد ذكرنا هنا أقوال العلماء، أن الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً‏.‏

وإذا صح ذلك فنصف الفرق صاع ونصف، وذلك ثمانية أرطال، ثبت أن الصاع ثلثها، وذلك خمسة أرطال وثلث على ما قاله أهل المدينة، وقد رجع أبو يوسف القاضى إلى قول مالك فى ذلك حين قدم إلى المدينة، فأخرج إليه مالك صاعًا، وقال له‏:‏ هذا صاع النبى صلى الله عليه وسلم، قال أبو يوسف‏:‏ فقدرته فوجدته خمسة أرطال وثلث، وأهل المدينة أعلم بمكيالهم، ولا يجوز أن يخفى عليهم قدره، ويعلمه أهل العراق، وإنما توارث أهل المدينة مقداره خلفًا عن السلف، نقل ذلك عالمهم وجاهلهم، إذْ كانت الضرورة بهم إليه فيما خصهم من أمر دينهم فى زكواتهم، وكفَّاراتهم، وبيوعهم، ولا يجوز أن يترك مثل نقل هؤلاء الذين لا يجوز عليهم التواطؤ والتشاعر إلى رواية واحد تحتمل روايته التأويل، وذلك أن قول مجاهد‏:‏ فحزرته فوجدته ثمانية أرطال إلى تسعة أرطال، إلى عشرة أرطال‏.‏

لم يقطع حزره على حقيقة فى ذلك، إذ الحزر لا يُعصم من الغلط وتعصم منه الكافة التى نقلت مقداره بالوزن لا بالحزر، وأيضًا فإن ذلك العس لو صح أن مقداره عشرة أرطال، أو تسعة أرطال، لم يكن لهم فى ذلك حجة، إذ ليس فى الخبر مقدار الماء الذى كان يكون فيه، هل هو ملؤه، أو أقل من ذلك‏؟‏ فقد يجوز أن يغتسل هو صلى الله عليه وسلم وحده بدون ملئه، وقد يجوز أن يغتسل هو وهى بملئه، فيكون بينهما عشرة أرطال، أو أقل، فيوافق ما قاله أهل المدينة‏.‏

فلما احتمل هذا ولم يكن فى الخبر بيان يُقطع به لا يجوز خلافه، كان المصير إلى ما نقل أهل المدينة، خلفهم عن سلفهم، أن الصاع وزنه خمسة أرطال وثلث، مع ما ثبت عن عائشة أنها كانت تغتسل هى، وهو صلى الله عليه وسلم من قدح يقال له‏:‏ الفرق‏.‏

وقد روى عن النخعى، وهو إمام أهل الكوفة، ما يخالف قول الكوفيين، ويوافق قول أهل المدينة‏.‏

وذكر ابن أبى شيبة، عن حسين بن على، عن زائدة، عن منصور، عن إبراهيم، قال‏:‏ كان يقال‏:‏ يكفى الرجل لغسله ربع الفرق، قال غيره‏:‏ وإنما احتيج إلى مقدار الماء الذى كان يغتسل به صلى الله عليه وسلم ليردّ به قول الإباضية فى الإكثار من الماء، وهو مذهب قديم، وجملة الآثار المنقولة فى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم يدل على أنه لا توقيت فيما يكفى من الغسل والطهارة، لذلك استحب السلف ذكر المقدار من غير كيل‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ كم بلغك أنه يكفى الجنب‏؟‏ قال‏:‏ صاع للغسل من غير أن يكال، قال ابن جريج‏:‏ وسمعت عبيد بن عمير يقول مثله‏.‏

روى القعنبى، عن سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن عطاء، قال‏:‏ إنه سمع سعيد بن المسيب، وسأله رجل من أهل العراق عما يكفى الإنسان فى غسل الجنابة، فقال سعيد‏:‏ إن لى تورًا يسع مدين ماء، أو نحوهما، أغتسل به فيكفينى ويفضل منه فضل، فقال الرجل‏:‏ والله إنى لأستنثر بمدين من ماء، فقال سعيد‏:‏ فما تأمن إن كان الشيطان يلعب بك، فقال له سعيد‏:‏ ثلاثة أمداد، فقال‏:‏ آلله هو قليل، فقال سعيد‏:‏ فصاع، قال عبد الرحمن‏:‏ فذكرته لسليمان بن يسار، فقال مثله، وذكرته لأبى عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، فقال‏:‏ هكذا سمعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون‏.‏

باب مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثًا

- فيه‏:‏ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِم، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِى ثَلاثًا، وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا‏.‏

- حَدَّثَنَا جَابِر، كَانَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ ثَلاثَةَ أَكُفٍّ وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ‏.‏

فَقَالَ لِىَ الْحَسَنُ‏:‏ إِنِّى رَجُلٌ كَثِيرُ الشَّعَرِ، فَقُلْتُ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ شَعَرًا مِنْكَ‏.‏

فيه‏:‏ غسل الرأس من الجنابة ثلاثًا، والعدد فى ذلك مستحب عند العلماء، وما أسبغ وعَمَّ فى ذلك أجزأ، وليس فى حديث هذا الباب الوضوء فى غسل الجنابة، ولذلك قال جماعة الفقهاء‏:‏ إنه من سنن الغسل‏.‏

باب الْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَن مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالأرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَرَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ‏.‏

فيه‏:‏ الوضوء فى الغسل من الجنابة، وموضع الترجمة من الحديث فى قوله‏:‏ تمت ثم أفاض على جسده-، ولم يذكر مرة ولا مرتين، فحمل على أقل ما يسمى غسلاً وهو مرة واحدة، والعلماء مجمعون أنه ليس الشرط فى الغسل إلا العموم والإسباغ لا عددًا من المرات‏.‏

باب مَنْ بَدَأَ بِالْحِلابِ أَوِ الطِّيبِ عِنْدَ الْغُسْلِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَىْءٍ نَحْوَ الْحِلابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأيْمَنِ، ثُمَّ الأيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ‏.‏

قال أبو سليمان الخطابى‏:‏ الحلاب‏:‏ إناء يسع حَلْبة ناقة، وهو المِحْلب، بكسر الميم، فأما المَحْلب، بفتح الميم، فهو الحَب الطيب الريح‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأظن البخارى جعل الحلاب فى هذه الترجمة ضربًا من الطيب، وإن كان ظن ذلك فقد وهم، وإنما الحلاب‏:‏ الإناء الذى كان فيه طيب النبى صلى الله عليه وسلم الذى كان يستعمله عند الغسل‏.‏

وفى الحديث‏:‏ الحث على استعمال الطيب عند الغسل تأسيًا بالنبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ من الْجَنَابَةِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن مَيْمُونَةُ، قَالَتْ‏:‏ صَبَبْتُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم غُسْلا، فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُتِىَ بِمِنْدِيلٍ، فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا‏.‏

وترجم له‏:‏ بَاب مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ لِيَكُونَ أَنْقَى‏.‏

قد تقدم اختلاف العلماء فى هذا الباب فى باب المضمضة فى الوضوء، فأغنى عن إعادته، ونزيد بيانًا، وذلك أن العلماء مجمعون على سقوط الوضوء فى غسل الجنابة، والمضمضة والاستنشاق سنتان فى الوضوء، فإذا سقط فرض الوضوء فى الجنابة سقطت توابعه، فدل أن ما روته ميمونة فى ذلك فى غسله صلى الله عليه وسلم فهو سنة، لأنه كان يلتزم الكمال والأفضل فى جميع عباداته‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ تمت ثم قال بيده إلى الأرض- سمى الفعل قولا، كما سمى القول فعلا، فى حديث‏:‏ تمت لا حسد إلا فى اثنتين- فى قوله فى الذى يتلو القرآن‏:‏ تمت لو أوتيت مثل ما أوتى لفعلت مثل ما فعل-‏.‏

وفيه‏:‏ أن الإشارة باليد والعمل قد تسمى قولا، فقول العرب‏:‏ قل لى برأسك أى‏:‏ أَمِلْهُ، وقالت الناقة، وقال البعير، وقال الحائط، وهذا كله مجاز‏.‏

وتركه صلى الله عليه وسلم للمنديل فإنه أراد، والله أعلم، إبقاء بركة الماء والتواضع بذلك وسنذكر اختلاف العلماء فى المسح بالمنديل فى باب نقض اليدين من غسل الجنابة، بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فقال بيده الأرض، فمسحها بالتراب-، يدل، والله أعلم، أنه كان فيها أذى، وإلا فلو لم يكن فيها أذى، لاكتفى بصب الماء وحده عليها كما فعل غير مرة‏.‏

والغُسل، بضم الغين، الماء الذى يغتسل به، والغَسل، بفتح الغين، فعل المغتسل، كالوُضوء والوَضوء، والوُقود والوَقود، فالوُضوء، بضم الواو، الماء الذى يتوضأ به، والوَضوء، بفتح الواو، فعل المتوضئ، والوُقود، بضم الواو، التوقد والتلهب، والوَقود، بفتح الواو، الحطب، وكذلك السُّحور، والسَّحور، بضم السين، الطعام، وبفتح السين، الفعل‏.‏

قال ابن الأنبارى‏:‏ وأجاز النحويون أن يكون الوضوء والسحور والوقود مصادر، والأول هو الذى عليه أهل اللغة‏.‏

باب هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِى الإنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ‏؟‏

وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَدَهُ فِى الطَّهُورِ، وَلَمْ يَغْسِلْهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ‏.‏

وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بَأْسًا بِمَا يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ‏.‏

- وقَالَ‏:‏ أَبُو بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الجَنَابِةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله فى الترجمة‏:‏ تمت هل يدخل الجنب يده فى الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يديه قذر غير الجنابة-، يريد إذا كانت يده طاهرة من الجنابة ومن سائر النجاسات، وهو جنب، فإنه يجوز له أن يدخل يده فى الإناء قبل أن يغسلها، وليس شىء من أعضائه نجسًا بسب حال الجنابة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت المؤمن لا ينجس-‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فأين موضع الترجمة من الأحاديث، فأكثرها لا ذكر فيه لغسل اليد، وإنما جاء ذكر اليد فى حديث هشام بن عروة، عن أبيه‏؟‏‏.‏

قيل له‏:‏ حديث هشام بن عروة مُفسِّر لمعنى الباب، والله أعلم، وذلك أن البخارى حمل حديث غسل اليد قبل إدخالها فى الماء الذى رواه هشام، إذا خشى أن يكون قد علق بها شىء من أذى الجنابة، أو غيرها، وما لا ذكر فيه لغسل اليد من الأحاديث، حملها على يقين طهارة اليد من أذى الجنابة أو غيرها، فاستعمل من اختلاف الأحاديث فائدتين جمع بهما بين معانيها، وانتفى بذلك التعارض عنها، وقد روى هذا المعنى عن ابن عمر، ذكر ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن أبى سنان ضرار، عن محارب، عن ابن عمر، قال‏:‏ من اغترف من ماء وهو جنب فما بقى منه نجس‏.‏

فهذا محمول من قوله على أنه كان بيده قذر الجنابة، وإلا فهو معارض لما روى البخارى عن ابن عمر، وقد روى مثل هذا التأويل عن جماعة من السلف‏.‏

روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال‏:‏ إذا أمنت أن يكون بكفيك قشب، فما يضرك أن تدخلهما فى وضوئك قبل أن تغسلهما‏.‏

وعن معمر، عن قتادة، أن ابن سيرين كان يخرج من الكنيف، فيدخل يده فى وضوئه قبل أن يغسلها، فقيل له‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ إنى لا أمس بها شيئًا‏.‏

وعن سالم، وسعيد بن جبير مثله‏.‏

وممن كان يدخل يده فى غسل الجنابة قبل أن يغسلها سعد بن أبى وقاص، وسعيد بن المسيب‏.‏

وقال الشعبى‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها وهم جنب، والنساء وهن حيض، ولا يفسد ذلك بعضهم على بعض، وذكر ذلك كله ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق‏.‏

وأما قوله‏:‏ تمت ولم ير ابن عمر، وابن عباس بأسًا بما ينتضح من غسل الجنابة-، فروى مثله عن أبى هريرة، وابن سيرين، والنخعى، والحسن، وقال الحسن‏:‏ ومن ذلك انتشار الماء، إنّا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا‏.‏

باب مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِى الْغُسْلِ

- فيه‏:‏ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ‏:‏ وَضَعْتُ لِلنَّبِىّ صلى الله عليه وسلم غُسْلا فَسَتَرْتُهُ، فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ، فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأرْضِ أَوْ بِالْحَائِطِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر تمام الغسل‏.‏

هذا الحديث محمول عند البخارى على أنه كان فى يده أو فى فرجه جنابة أو أذى، فلذلك دلك يده بالأرض وغسلها قبل إدخالها فى وضوئه على ما قدمنا ذكره فى هذا الباب قبل هذا، والله أعلم‏.‏

باب تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ

وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَمَا جَفَّ وَضُوءُهُ‏.‏

- فيه‏:‏ مَيْمُونَةُ قَالَتْ‏:‏ وَضَعْتُ لِلنَّبِى صلى الله عليه وسلم مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث إلى قوله‏:‏ ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مغتسله، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ‏.‏

اختلف العلماء فى تفريق الوضوء والغسل، فممن أجاز ذلك‏:‏ ابن عمر، وابن المسيب، وعطاء، وطاوس، والنخعى، والحسن، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، ومحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم‏.‏

وممن لم يُجز تفرقته‏:‏ عمر بن الخطاب، وهو قول قتادة، وربيعة، والأوزاعى، والليث إذا فرقه حتى جف، وهو ظاهر مذهب مالك إذا فرقه حتى جف، وإن فرقه يسيرًا جاز، وإن فرقه على وجه النسيان يجزئه وإن طال، وأما إن تَعمِّد ذلك، فلا يجزئه‏.‏

هذا قول ابن القصار‏.‏

قال‏:‏ ومن أصحاب مالك من قال‏:‏ الموالاة مستحبة، وروى ابن وهب، عن مالك، قال‏:‏ ولو نزع خفيه، وأقام طويلاً لم يغسل رجليه وأحب إلىَّ أن يأتنف الوضوء، وإن غسل رجليه وصلى أجزأه‏.‏

وحجة من أجاز تفرقته، حديث ميمونة‏:‏ تمت أن النبى صلى الله عليه وسلم تنحى عن مقامه، فغسل قدميه-، وفعل ابن عمر، ولو كان لا يجزئه، لبينه صلى الله عليه وسلم، واحتجوا أيضًا بأن الله تعالى أمر المتوضئ بغسل الأعضاء، فمن أتى بغسل ما أمر به متفرقًا، فقد أدى ما أُمر به، و تمت الواو- فى الآية لا تعطى الفور‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ جفوف الوضوء ليس بحدث فلا ينقض، كما أن جفوف سائر الأعضاء لا يبطل الطهارة‏.‏

واحتج من لم يجز التفرقة، بأن التنحى فى حديث ميمونة من موضع الغسل يقرب ويبعد، واسم التنحى بالقرب أولى، وأما جفوف الوضوء فى فعل ابن عمر فلا يكون إلا بالبعد، لكن الذى مضى عليه عمل النبى صلى الله عليه وسلم الموالاة، وتواطأ على ذلك فعل السلف، واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا، أنه لما جاز التفريق اليسير جاز الكثير، أصله الحج، وعكسه الصلاة، لأنه لو وقف بعرفة وطاف يوم النحر أجزأه، وهذا تفريق يسير، ولو وقف وطاف بعد شهر أجزأه، ولو طاف خمسة أشواط، وطاف شوطين فى وقت آخر أجزأه‏.‏

فعارضهم أهل المقالة الثانية، فقالوا‏:‏ أما قياسكم على التفريق اليسير فغلط، لأن الأصول قد جوزت العمل اليسير فى الصلاة، ومنعت من الكثير، ولو تعمد قتل عقرب، أو دب ليسدَّ الصفَ جاز، ولو اشتغل بإخراج غريق وهو فى الصلاة بطلت الصلاة، والقياس على الصلاة أولى من القياس على الحج، لأن الطهارة تراد للصلاة‏.‏

باب إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَدَ وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْل وَاحِدٍ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا، يَنْضَحُ طِيبًا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، كَانَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِى السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امرأة، قُلْتُ لأنَسٍ‏:‏ أَوَكَانَ يُطِيقُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِىَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ‏.‏

وقال سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ عَن أَنَس‏:‏ تمت تِسْعُ نِسْوَةٍ-‏.‏

لم تختلف العلماء فى جواز وطء جماعة نساء فى غسل واحد على ما جاء فى حديث عائشة، وأنس‏.‏

وروى ذلك عن ابن عباس، وقاله عطاء، ومالك، والأوزاعى‏.‏

وإنما اختلفوا إذا وطئ جماعة نسائه فى غسل واحد، هل عليه أن يتوضأ وضوءه للصلاة عند وطء كل واحدة منهن أم لا‏؟‏ فروى عن عمر بن الخطاب، وابن عمر أنه إذا أراد أن يعود توضأ وضوءه للصلاة، وبه قال عطاء وعكرمة، وكان الحسن البصرى لا يرى بأسًا أن يجامع الرجل امرأته، ثم يعود قبل أن يتوضأ، وعن ابن سيرين مثله، وبهذا قال مالك وأكثر الفقهاء أنه لا وضوء عليه‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ إن توضأ أعجب إلىّ، فإن لم يفعل فأرجو ألا يكون به بأس‏.‏

وبه قال إسحاق، وقال‏:‏ لابد من غسل الفرج إذا أراد أن يعود‏.‏

ويحتمل أن يكون دورانه صلى الله عليه وسلم عليهن فى يوم واحد لمعان‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون ذلك عند إقباله من سفره، حيث لا قسمة تلزمه لنسائه، لأنه كان إذا سافر أقرع بين نسائه فأيتهن أصابتها القرعة خرجت معه، فإذا انصرف استأنف القسمة بعد ذلك، ولم تكن واحدة منهن أولى بالابتداء من صاحبتها، فلما استوت حقوقهن، جمعهن كلهن فى ليلة، ثم استأنف القسمة بعد ذلك‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ يحتمل أن يكون استطاب أنفس أزواجه، فاستأذنهن فى ذلك كنحو استئذانهن أن يُمرَّض فى بيت عائشة، قاله أبو عبيد‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ قاله المهلب، قال‏:‏ يحتمل أن يكون دورانه عليهن فى يوم يفرغ من القسمة بينهن، فيقرع فى هذا اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعد ذلك القسمة، والله أعلم‏.‏

وفى هذا الحديث أن الإماء يعددن من نسائه، لقوله‏:‏ تمت وهن إحدى عشرة امرأة-، لأنه لم يحل له من الحرائر إلا تسع، وهو حجة لمالك فى قوله‏:‏ إن من ظاهر من أمته لزمه الظهار، لأنها من نسائه، واحتج بظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏ وسيأتى فى كتاب النكاح زيادة من الكلام فى هذا الحديث، إن شاء الله عز وجل‏.‏

وقد احتج بحديث عائشة من لا يوجب التدلك فى الغسل، وقال‏:‏ لو تدلك صلى الله عليه وسلم لم ينتضح منه الطيب‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد يجوز أن يكون دَلَكَ وقد غسله، وهكذا الطيب إذا كان كثيرًا، ربما غسله، فذهب وبقى وَبيصه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ومن روى هذا الحديث‏:‏ تمت ينضخ طيبًا- بالخاء، فالنضخ عند العرب كاللطخ، يقال‏:‏ نضخ ثوبه بالطيب، هذا قول الخليل‏.‏

وفى كتاب الأفعال‏:‏ نضخت العين بالماء نضخًا إذا فارت، واحتج بقوله الله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 66‏]‏، ومن رواه تمت ينضح- بالحاء، فقال صاحب العين‏:‏ نضحت العين بالماء إذا رأيتها تفور، وكذلك العين الناظرة، إذا رأيتها تغرورق، والوبيص‏:‏ البريق واللمعان‏.‏

باب غَسْلِ الْمَذْىِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ

- فيه‏:‏ عَلِىّ بن أَبِى طالب، قَالَ‏:‏ كُنْتُ رَجُلا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ رَجُلا أَنْ يَسْأَلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَسَأَلَه، فَقَالَ‏:‏ تمت تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ-‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة‏:‏ يغسل الذكر كله من المذى، ثم يتوضأ مثل وضوئه للصلاة، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وهو قول مالك فى المدوّنة، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت توضأ واغسل ذكرك-، وهذا ظاهره العموم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما يجب غسل موضع الأذى من الذكر فقط مع الوضوء، لا غسل الذكر كله، وروى هذا عن ابن عباس أيضًا، وعن سعيد بن جبير، وعطاء، وهو قول الكوفيين‏.‏

وقال ابن أبى زيد‏:‏ قال البغداديون من أصحاب مالك‏:‏ إن معنى غسل الذكر من المذى‏:‏ غسل موضع الأذى فقط‏.‏

واحتج الكوفيون بما رواه الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال على‏:‏ كنت رجلاً مذاءً فأمرت رجلاً فسأل النبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ فيه الوضوء‏.‏

ورواه أبو حصين، عن أبى عبد الرحمن، عن على، قال‏:‏ كنت رجلاً مذاءً، فأرسلت رجلاً إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تمت توضأ واغسله-‏.‏

واحتج أبو عبد الله بن الفخار لقول البغداديين من أصحاب مالك، قال الدليل على صحته‏:‏ أن مالكًا روى فى موطئه حديث المقداد فى غسل المذى، وفيه‏:‏ تمت فليغسل فرجه وليتوضأ-، هكذا رواه القعنبى، وابن وهب، وابن بكير، وجماعة‏.‏

قال‏:‏ والفرج فى اللغة‏:‏ الشق بين الجبلين، فحقيقة الفرج إنما تقع على موضع مخرج البول والمذى فقط‏.‏

وروى يحيى بن يحيى تمت فلينضح فرجه-، ومعناه الغسل‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وأما النظر فى هذا الباب، فإنا رأينا خروج المذي حدثًا، فأردنا أن نعلم ما يجب فى خروج الأحداث، فكان خروج الغائط يجب فيه غسل ما أصاب البدن لا غسل ما سوى ذلك، إلا التطهر للصلاة، فالنظر على ذلك أن يكون خروج المذى كذلك لا يجب فيه غسل غير الموضع الذى أصابه من البدن غير التطهر للصلاة‏.‏

باب مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِىَ أَثَرُ الطِّيبِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنّه ذُكر لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَحُ طِيبًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ طَافَ فِى نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا‏.‏

- وفيه‏:‏ وَقَالَتْ عَائِشَة‏:‏ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفْرِقِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن السنة اتخاذ الطيب للنساء والرجال عند الجماع، فكان صلى الله عليه وسلم أملك لأربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يتجنب الطيب فى الإحرام ونهانا عنه، لضعفنا عن ملك الشهوات، إذ الطيب من أسباب الجماع ودواعيه، والجماع يفسد الحج، فمنع فيه الطيب للذريعة‏.‏

وسيأتى اختلاف العلماء فى الطيب للمحرم فى كتاب الحج، والوبيص‏:‏ البريق واللَّمعان‏.‏

وقد احتج بحديث عائشة من لا يوجب التدلك فى الغسل، وقالوا‏:‏ لو تدلك فى غسله لم ينضح الطيب منه‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ وقد يجوز أن يكون دلك وقد غسله، وهكذا الطيب إذا كان كثيرًا، ربما غسله فذهب وبقى وبيصه‏.‏

باب تَخْلِيلِ الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، غَسَلَ يَدَيْهِ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ، أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاثَ غرفات، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما تخليل شعر الرأس فى غسل الجنابة فالعلماء مجمعون عليه، وعليه قاسوا شعر اللحية، لأنه شعر مثله، فحكمه حكمه فى التخليل، إلا أنهم اختلفوا فى تخليل اللحية، فممن كان يخلل لحيته‏:‏ عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وابن عمر، وأنس، ومن التابعين أبو قلابة، والنخعى، وسعيد بن جبير، وعطاء‏.‏

وممن رخص فى تخليلها‏:‏ الشعبى، وطاوس، والقاسم، والحسن، وأبو العالية، ورواية عن النخعى‏.‏

واختلف قول مالك فى تخليلها، فروى عنه ابن القاسم أنه لا يجب تخليلها فى غسل الجنابة، ولا فى الوضوء، وروى عنه ابن نافع، وابن وهب فى المجموعة إيجاب تخليلها مطلقًا، ولم يذكرا غسلاً ولا وضوءًا، وروى عنه أشهب فى العتبية أن تخليلها فى الغسل واجب، ولا يجب فى الوضوء، وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وحكى ابن القصار، عن الشافعى أن التخليل مسنون، وإيصال الماء إلى البشرة مفروض فى الجنابة مثل أن يغلغل الماء فى شعره، أو يبله حتى يعلم أن الماء قد وصل إلى البشرة، وقال المزنى، ومحمد بن عبد الحكم‏:‏ تخليلها واجب فى الوضوء والغسل جميعًا‏.‏

وحجة من قال بتخليلها فى الغسل حديث عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم اغتسل وخلل شعره بيديه‏.‏

فدخل فيه شعر اللحية وغيرها‏.‏

وأما تخليلها فى الوضوء، فقال ابن القاسم، عن مالك‏:‏ ليس هو من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله، وقال أبو قرة‏:‏ يكفيها ما مر عليها من الماء مع غسل الوجه، واحتج بحديث عبد الله بن زيد فى الوضوء، ولم يذكر فيه تخليل اللحية، وقال الطحاوى‏:‏ التيمم فيه واجب مسح البشرة قبل نبات اللحية، ثم سقط بعدها عند جميعهم، فكذلك الوضوء، وحجة من لم ير تخليل اللحية فى الجنابة، أنا قد اتفقنا أن داخل العينين لا يجب غسله، بعلة أن درنه سائر من نفس الخلقة، وأيضًا فإن الأمرد الذى لا لحية له يجب عليه غسل ذقنه فى الوضوء والجنابة، ثم يسقط غسله فى الوضوء إذا غطاه الشعر، فينبغى أن يسقط فى الجنابة‏.‏

باب مَنْ تَوَضَّأَ فِى الْجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى

- فيه‏:‏ مَيْمُونَةَ أنها وَضَعَت للنَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَضُوء الجَنَابَة، فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى بَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏-، الحديث‏.‏

أجمع العلماء على أن الوضوء ليس بواجب فى غسل الجنابة، ولذلك قال ابن عمر‏:‏ وأى وضوء أعم من الغسل‏؟‏ فلما ناب غسل مواضع الوضوء وهى سنة فى الجنابة عن غسلها فى الجنابة، وغسل الجنابة فريضة، صح بذلك قول مطرف، وابن الماجشون، وابن كنانة، وابن وهب، وابن نافع، وأشهب‏:‏ أن غسل الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة، ورووه كلهم عن مالك، وهى خلاف رواية ابن القاسم‏.‏

قال المهلب‏:‏ ووجه ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لما اجتزأ بغسل أعضاء الوضوء عن أن يغسلها مرة أخرى للجنابة، دل أن الطهارة إذا نوى بها رفع الحدث أجزأت عن كل معنى يراد به استباحة الصلاة، ولهذا الحديث، والله أعلم، قال عطاء‏:‏ إذا غسلتُ كفَّىَّ قبل إدخالهما الإناء لم أغسلهما مع الذراعين فى الوضوء‏.‏

وفى هذا الحديث أيضًا حجة لأحد قولى مالك فى رجل توضأ للظهر، ثم صلى، ثم أراد أن يجدد الوضوء للعصر للفضل، فلما صلى العصر، ذكر أن الوضوء الأول قد انتقض، فقال مرة‏:‏ تجزئه صلاته، وقال مرة‏:‏ إنها لا تجزئه‏.‏

والصواب أنها تجزئه، لأن الوضوء عنده للسنن تجزئ به صلوات الفرائض، ومثل هذه المسألة اختلاف ابن القاسم، وابن الماجشون، فيمن صلى فى بيته، ثم صلى تلك الصلاة فى المسجد، فذكر أنه كان صلى فى بيته على غير وضوء، فقال ابن القاسم‏:‏ تجزئه‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ لا تجزئه‏.‏

وقول ابن القاسم الصواب بدليل هذا الحديث، فإنه وإن كان صلاها على طريقة الفضيلة، فإنه نوى بها تلك الصلاة بعينها والقربة إلى الله بتأديتها، كما نوى بغسل يديه وغسل مواضع الوضوء القربة إلى الله، ولم يحتج إلى إعادتها فى الغسل من الجنابة، وقد قال ابن عمر للذى سأله عن الذى يصلى فى بيته، ثم يصلى تلك الصلاة فى المسجد تمت أيهما أجعل صلاتى‏؟‏ فقال‏:‏ أو ذلك إليك‏؟‏ هى إلى الله يجعل أيتهما شاء-‏.‏

وقوله فى الحديث فى الباب قبل هذا‏:‏ تمت ثم غسل سائر جسده- كان أولى بهذه الترجمة، وهو تبيين لرواية من روى فيه‏:‏ تمت ثم أفاض على جسده الماء، وصب أو أفرغ على جسده-، والمراد بذلك‏:‏ الغسل لما بقى من الجسد دون أعضاء الوضوء بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، وقد تقدم من الحجة فى هذه المسألة فى أول كتاب الغسل ما فيه الكفاية‏.‏

باب إِذَا ذَكَرَ فِى الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ خَرَجَ كَمَا هُوَ وَلا يَتَيَمَّمُ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ فِى مُصَلاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَقَالَ لَنَا‏:‏ تمت مَكَانَكُمْ-، ثُمَّ رَجَعَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ من التابعين من يقول‏:‏ إن الجنب إذا نسى، فدخل المسجد فذكر أنه جنب يتيمم، وكذلك يخرج، وهو قول الثورى، وإسحاق، وهذا الحديث يرد قولهم‏.‏

وقال أبو حنيفة فى الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء‏:‏ فإنه يتيمم، ويدخل المسجد، فيستقى، ثم يخرج الماء من المسجد، وهذا الحديث يدل على خلاف قوله، لأنه لما لم يلزمه التيمم للخروج، كذلك من اضطر إلى المرور فيه جنبًا لا يحتاج إلى تيمم‏.‏

وقد اختلف العلماء فى مرور الجنب فى المسجد، فرخص فيه على، وابن مسعود، وابن عباس، وقال جابر‏:‏ كان أحدنا يمر فى المسجد وهو جنب‏.‏

وممن روى عنه إجازة دخوله عابر سبيل‏:‏ سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، وهو قول الشافعى‏.‏

ورخصت طائفة للجنب أن يدخل المسجد ويقعد فيه، قال زيد بن أسلم‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتبون فى المسجد وهم جنب‏.‏

وكان أحمد بن حنبل يقول‏:‏ يجلس الجنب فى المسجد ويمر فيه إذا توضأ، ذكره ابن المنذر‏.‏

وقال مالك والكوفيون‏:‏ لا يدخل فيه الجنب، ولا عابر سبيل، وروى عن ابن مسعود أيضًا أنه كره ذلك للجنب‏.‏

وحجة الذين رخصوا فى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وأن المراد مكان الصلاة، فتقديره‏:‏ لا تقربوا مكان الصلاة جنبًا إلا عابرى سبيل، قالوا‏:‏ وقد سمى المسجد باسم الصلاة فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وحجة الذين منعوا الجنب من دخول المسجد‏:‏ أن المراد بالآية نفس الصلاة وحملها على مكان الصلاة مجاز، على أنا نحمله على عمومه فنقول‏:‏ لا تقربوا الصلاة ولا مكانها على هذه الحال إلا أن تكونوا مسافرين فتيمموا واقربوا ذلك، وصلوا، ونكون بهذا أسعد منكم لأن فيه تعظيمًا لحرمة المسجد، ويمكن أن يستدل من هذه الآية بقول الثورى، وإسحاق، وذلك أن المسافر إذا عدم الماء منع دخول المسجد والصلاة فيه إلا بالتيمم وذلك لضرورة، وأنه لا يقدر على ماء، فكذلك الذى يجنب فى المسجد، فى القياس، لا يخرج إلا بعد التيمم، لأنه مضطر لا ماء معه، فأشبه المسافر العابر سبيل المذكور فى الآية لولا ما يعارضه من حديث أبى هريرة المفسر لمعنى الآية، لجواز خروجه من المسجد دون تيمم، ولا قياس لأحد مع مجئ السنن، وإنما يُفزع إلى القياس عند عدمها، والله الموفق‏.‏